فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الاستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليه وإلى ملئه، لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ} [يونس: 78] لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كما كان يفعله ملؤه وسائر قومه، أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادي الالزام بالفعل بعد اليأس عن الالزام بالقول: {ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ} بفنون السحر حاذق ماهر فيه.
وقرأ حمزة والكسائي: {ساحر} {فَلَمَّا جَاء السحرة} عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانًا بسرعة امتقالهم لومر كما هو شأن الفاء الفصيحة، وقد نص على نظير ذلك في قوله سبحانه: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] أي فأتوا به فلما جاؤوا: {قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} أي ما ثبتم واستقر رأيكم على إلقائه كائنًا ما كان من أصنف السحر، وأصل الالقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف أسمًا لكل طرح، وكان هذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكى عنهم في السور الأخر من قولهم: {إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 115] ونحو ذلك ولم يكن في إبتداء مجيئهم، و: {مَا} موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه، ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والاشعار بعدم المبالاة، والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به.
{فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} ما ألقوا من العصى والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم: {قَالَ} لهم: {موسى} غير مكترث بهم وبما صنعوا: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} {مَا} موصولة وقعت مبتدأ و: {السحر} خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفرادًا أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات الله تعالى سحرًا وهو للجنس، ونقل عن الفراء أن أل للعه، لتقدم السحر في قوله تعالى: {إِنَّ هذا لساحر} [يونس: 76] ورد بأن شرط كونها للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر ذاتًا كما في: {أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15، 16] ولا اتحاد فيما نحن فيه فإن السحر المتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة.
ومن الناس من منع اشتراط الاتحاد الذاتي مدعيًا أن الاتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى: {والسلام على} [مريم: 33] إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتًا، والظاهر اشتراط ذلك وعدم كفاية الاتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلًا وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيدًا والثاني عمرًا مثلًا أن يقال: إن أل للعه، لأن الاتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحدًا تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر إذ الأول سحر ادعائي والثاني حقيقي، و: {السلام} فيما نقوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعددًا في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثل ذلك.
وقد ذكر بعض المحققين أن القول يكون التعريف للعهد مع دعوى استفادة القصر منه مما يتنافيان لأن القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس.
نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أولًا معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ لا ينافي تعريف العهد القصروان كان كلامهم يخالفه ظاهرًا فليحرر انتهى.
وأقول: دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولعله أراد الجنس وأن عبر بالعهد بناء على ما ذكره الجلال السيوطي في همع الهوامع نقلًا عن ابن عصفور أنه قال: لا يبعد عندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم المعرفة.
وادعى أبو الحجاج يوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهر التعليل لا يساعد ذلك.
وقرأ عبد الله: {ساحر} بالتنكير، وأبى: {مَّا ءاتَيْتُم بِهِ ساحر} والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضًا لكن بواسطة التعريض لوقوعه في مقابلة قولهم: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76] وجوز في: {مَا} في جميع هذا القراآت أن تكون استفهامية و: {السحر} خبر مبتدأ محذوف.
وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر: {السحر} بقطع الألف ومدها على الاستفهام فما استفهامية مرفوعة على الابتداء و: {جِئْتُمْ بِهِ} خبرها و: {السحر} خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أي شيء جسيم جئتم به أهو السحر أو السحر هو، وقد يجعل السحر بدلًا من: {مَا} كما تقول ما عندك أدينار أم درهم، وقد تجعل: {مَا} نصبًا بفعل محذوف يقدر بعدها أي أي شيء أتيتم به و: {جِئْتُمْ بِهِ} مفسر له وفي: {السحر} الوجهان الأولان.
وجوز أن تكون موصولة مبتدأ والجملة الاسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره، وفيه الأخبار بالجملة الإنشائية، ولا يجوز أن تكون على هذا التقدير منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملًا.
{إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلًا أو سيظهر بطلانه وفساده للناس، والسين للتأكيد: {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي جنسهم على الإطلاق فيدخل فيه السحرة دخولًا أوليًا، ويجوز أن يراد بالمفسدين المخاطبون فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالافساد والاشعار بعلة الحكم، والجملة تذييل لتعليل ما قبلها وتأكيده، والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي لا عدم جعل الفاسد صالحًا لظهور أن ذلك مما لا يكون أي أنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه ويجعله معلومًا.
واستدل بالآية على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له.
وأنت تعلم أن في اطلاق القول بأن السحر لا حقيقة له بحثًا، والحق أن منه ما له حقيقة ومنه ما هو تخيل باطل ويسمى شعبذة وشعوذة.
{وَيُحِقُّ الله الحق} أي يثبته ويقويه وهو عطف على قوله سبحانه: {سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] وإظهار الاسم الجليل في المقامين لإلقاء الروعة وتربية المهابة: {بكلماته} أي بأوامره وقضاياه، وعن الحسن أي بوعده النصر لمن جاء به وهو سبحانه لا يخلف ذلك، وعن الجبائي أي بما ينزله مبينًا لمعاني الآيات التي أتى بها نبيه عليه السلام.
وقرئ: {بكلماته} وفسرت بالأمر واحد الأوامر حسبما فسرت الكلمات بالأوامر وأريد منها الجنس فيتطابق القراءتان، وقيل: يحتمل أن يراد بها قول كن وأن يراد بها الأمر واحد الأمور ويراد بالكلمات الأمور والشؤون: {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} ذلك، والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهما. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}
جملة: {وقال فرعون} عطف على جملة: {قالوا إنّ هذا لسحر مبين} [يونس: 76]، فهذه الجملة في حكم جواب ثان لحرف (لَما) حكي أولًا ما تلقَّى به فرعون وملؤُه دعوة موسى ومعجزتَه من منع أن يكون ما جاء به تأييدًا من عند الله. ثم حُكي ثانيًا ما تلقى به فرعون خاصةً تلك الدعوةَ من محاولة تأييد قولهم: {إن هذا لسحر مبين} [يونس: 76] ليثبتوا أنهم قادرون على الإتيان بمثلها مما تَحصيل أسبابه من خصائص فرعون، لما فيه من الأمر لخاصة الأمة بالاستعداد لإبطال ما يخشى منه.
والمخاطب بقوله: {إيتوني} هم ملأ فرعون وخاصتُه الذين بيدهم تنفيذ أمره.
وأمر بإحضار جميع السحرة المتمكنين في علم السحر لأنهم أبصر بدقائقه، وأقدر على إظهار ما يفوق خوارق موسى في زعمه، فحضورهم مغن عن حضور السحرة الضعفاء في علم السحر لأن عملهم مظنة أن لا يوازي ما أظهره موسى من المعجزة فإذا أتوا بما هو دون معجزة موسى كان ذلك مروجًا لدعوة موسى بين دهماء الأمة.
والعموم في قوله: {بكل ساحر عليم} عموم عرفي، أي بكل ساحر تعلمونه وتظفرون به، أو أريد: {بكل} معنى الكثرة، كما تقدم في قوله: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية} في سورة [البقرة: 45].
وجملة: {فلما جاء السحرة} عطف على جملة: {وقال فرعون}، عُطف مجيء السحرة وقول موسى لهم على جملة: {قال فرعون} بفاء التعقيب للدلالة على الفور في إحضارهم وهو تعقيب بحسب المتعارف في الإسراع بمِثل الشيء المأمور به، والمعطوف في المعنى محذوف لأن الذي يعقُب قوله: {ائتوني بكل ساحر} هو إتيانهم بهم، ولكن ذلك لقلة جدواه في الغرض الذي سيقت القصة لأجله حذف استغناء عنه بما يقتضيه ويدل عليه دلالة عقلية ولفظية من قوله: {جاء السحرة} على طريقة الإيجاز.
والتقدير: فأتوه بهم فلما جاءوا قال لهم موسى.
والتعريف في: {السحرة} تعريف العهد الذكري.
وإنما أمرهم موسى بأن يبتدئوا بإلقاء سحرهم إظهارًا لقوة حجته لأن شأن المبتدئ بالعمل المتباري فيه أن يكون أمكن في ذلك العمل من مباريه، ولاسيما الأعمال التي قوامها التمويه والترهيب، والتي يتطلَّب المستنصر فيها السبق إلى تأثر الحاضرين وإعجابهم، وقد ذكر القرآن في آيات أخرى أن السحرة خَيَّروا موسى بين أن يبتديء هو بإظهار معجزته وبين أن يبتدئوا، وأن موسى اختار أن يكونوا المبتدئين.
وفعل الأمر في قوله: {ألقوا ما أنتم ملقون} مستعمل في التسوية المرادِ منها الاختيار وإظهار قلة الاكتراث بأحد الأمرين.
والإلقاء: رمي شيء في اليد إلى الأرض.
وإطلاق الإلقاء على عمل السحر لأن أكثر تصاريف السحرة في أعمالهم السحرية يكون برمي أشياء إلى الأرض.
وقد ورد في آيات كثيرة أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم، وأنها يخيَّل من سحرهم أنها تسعى، وكان منتهى أعمال الساحر أن يخيل الجماد حيًا.
و: {ما أنتم ملقون} قصد به التعميم البدلي، أيّ شيء تلقونه، وهذا زيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم، وتهيئة للملأ الحاضرين أن يعلموا أن الله مبطل سحرهم على يد رسوله.
ولا يشكل أن يأمرهم موسى بإلقاء السحر بأنه أمر بمعصية لأن القوم كانوا كافرين والكافر غير مخاطب بالشرائع الإلهية، ولأن المقصود من الأمر بإلقائه إظهار بطلانه فذلك بمنزلة تقرير شبهة الملحد ممن يتصدى لإبطالها بعد تقريرها مثل طريقة عضد الدين الأيجي في كتابه المواقف.
وقد طوي ذكر صورة سحرهم في هذه الآية، لأن الغرض من العبرة في هذه الآية وصف إصرار فرعون وملئه على الإعراض عن الدعوة، وما لقيه المستضعفون الذين آمنوا بموسى عليه السلام من اعتلاء فرعون عليهم وكيف نصر الله رسوله والمستضعفين معه، وكيف كانت لهم العاقبة الحسنى ولمن كفروا عاقبة السوء، ليكونوا مثلًا للمكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يعرّج بالذّكر إلا على مقالة موسى عليه السلام حين رأى سحرهم الدالة على يقينه بربّه ووعده، وبأن العاقبة للحق.
وذلك أهم في هذا المقام من ذكر اندحاض سحرهم تجاه معجزة موسى عليه السلام، ولأجل هذا لم يذكر مفعول: {ألقوا} لتنزيل فعل: {ألقوا} منزلة اللازم، لعدم تعلق الغرض ببيان مفعوله.
ومعنى: {جئتم به} أظهرتموه لنا، فالمجيء قد استعمل مجازًا في الإظهار، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه، فالملازمة عرفية.
وليس المراد أنهم جاؤوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر، لأنه وإن كان كثير من السحرة أو كلِّهم قد أقبلوا من مدن عديدة، غير أن ذلك التقدير لا يطرد في كل ما يعبر فيه بنحو: جاء بكذا، فإنه وإن استقام في نحو: {وجاءوا على قميصه بدَم كذب} [يوسف: 18] لا يستقيم في نحو: {إنّ الذين جَاءوا بالإفك} [النور: 11].
ونظم الكلام على هذا الأسلوب بجَعْللِ: {ما جئتم} مسندًا إليه دون أن يجعل مفعولًا لفعللِ: {سيبطله}، وبجَعْله اسمًا مُبهمًا، ثُم تفسيره بجملة: {جئتم به} ثم بيانه بعطف البيان لقصد الاهتمام بذكره والتشويق إلى معرفة الخبر، وهو جملة: {إن الله سيبطله} ثم مَجيء ضمير السحر مفعولًا لفعل: {سيبطله}، كل ذلك إطناب وتخريج على خلاف مقتضى الظاهر، ليتقرر الإخبار بثبوت حقيقة في السحر له ويتمكَّن في أذهان السامعين فَضل تمكن ويقع الرعب في نفوسهم.
وقوله: {السحر} قرأه الجمهور بهمزة وصل في أوله هي همزة (ال)، فتكون (ما) في قوله: {ما جئتم به} اسم موصول، والسحرُ عطفَ بيان لاسم الموصول. وقرأه أبو عمرو، وأبو جعفر: {آلسحر} بهمزة استفهام في أوله وبالمد لتسهيل الهمزة الثانية، فتكون (ما) في قوله: {ما جئتم به} استفهامية ويكون (آلسحرَ) استفهامًا مبينًا لـ (ما) الاستفهامية. وهو مستعم في التحقير. والمعنى: أنه أمر هين يستطيعه ناس كثيرون.
و: {إن الله سيبطله} خبر (ما) الموصولة على قراءة الجمهور، واستئناف بياني على قراءة أبي عمرو ومن وافقه وتأكيد الخبر بـ (إن) زيادة في إلقاء الرّوع في نفوسهم. وإبطاله: إظهار أنه تخييل ليس بحقيقة، لأن إظهار ذلك إبطال لما أريد منه، أي أن الله سيبطل تأثيره على الناس بفضح سره، وأشارت علامة الاستقبال إلى قرب إبطاله، وقد حصل ذلك العلم لموسى عليه السلام بطريق الوحي الخاص في تلك القضية، أو العام باندراجه تحت قاعدة كلية، وهي مدلول: {إن الله لا يصلح عملَ المفسدين}.